الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده. قَالَ شيخ الإِسلام ـ قدّس الله رُوحه وَنوّر ضريحه: أسْمَاء القُرآن القرآن، الفرقان، الكتاب، الهدى، النور، الشفاء، البيان، الموعظة، الرحمة، بصائر، البلاغ، الكريم،المجيد،العزيز، المبارك،التنزيل،المنزل،الصراط المستقيم، حبل اللّه، الذكر، الذكرى، تذكرة: وأما وصفه بأنه يقص وينطق ويحكم ويفتى ويبشر ويهدي فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [النمل:76]،
فى الآيات الدالة على اتباع القرآن قوله:
وَسُئِلَ ـ رحمه اللَّه فقال:
وأما حديث فاتحة الكتاب، فقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول اللّه تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل). وثبت فى صحيح مسلم عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبى صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه، فقال: (هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، ولم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك:فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته)، وفى بعض الأحاديث: (إن فاتحة الكتاب أعطيها من كَنْز تحت العرش).
قال الله تعالى في أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم: والصلاة أفضل الأعمال، وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح، أفضل كلمها الطيب وأوجبه القرآن، وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود، كما جمع بين الأمرين في أول سورة أنزلها على رسوله، حيث افتتحها بقوله تعالى: ولهذا قال سبحانه فى صلاة الخوف: ولهذا لما تنازع العلماء أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام أو هما سواء على ثلاثة أقوال عن أحمد وغيره، كان الصحيح أنهما سواء، القيام فيه أفضل الأذكار، والسجود أفضل الأعمال فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم معتدلة، يجعل الأركان قريباً من السواء، وإذا أطال القيام طولاً كثيراً - كما كان يفعل فى قيام الليل وصلاة الكسوف - أطال معه الركوع والسجود، وإذا اقتصد فيه اقتصد فى الركوع والسجود، وأم الكتاب، كما أنها القراءة الواجبة فهي أفضل سورة فى القرآن . قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح: (لم ينزل فى التوراة ولا الإنجيل ولا الزَّبُور ولا القرآن مثلها، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وفضائلها كثيرة جداً . وقد جاء مأثوراً عن الحسن البصري ـ رواه ابن ماجه وغيره ـ أن اللّه أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها فى الأربعة، وجمع علم الأربعة فى القرآن، وجمع علم القرآن فى المفصَّل، وجمع علم المفصل فى أم القرآن، وجمع علم أم القرآن فى هاتين الكلمتين الجامعتين: ولهذا ثبت في الحديث الصحيح حديث: إن اللّه تعالى يقول:(قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: فقد ثبت بهذا النص أن هذه السورة منقسمة بين اللّه وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة، فـ وإذا كان اللّه قد فرض علىنا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين فى كل صلاة، فمعلوم أن ذلك يقتضى أنه فرض علىنا أن نعبده وأن نستعينه؛ إذ إيجاب القول الذى هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ليس إيجابا لمجرد لفظ لا معنى له، فإن هذا لا يجوز أن يقع؛ بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة؛ فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب، أو القلب والبدن، بل أوجب دعاء اللّه ـ عز وجل ـ ومناجاته، وتكليمه ومخاطبته بذلك ليكون الواجب من ذلك كاملا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد . وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجاباً وغير إيجاب فى مواضع، كقوله فى آخر سورة هود: فأمر نبيـه بأن يقول:على الرحمن توكلت وإليه متاب،كما أمره بهما فى قوله: وإلى هذين الأصلين كان النبى صلى الله عليه وسلم يقصد فى عباداته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله فى الأضحية: (اللهم هذا منك ولك)، فإن قوله: (منك) هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله:(لك) هو معنى العبادة، ومثل قوله في قيامه من الليل: (لك أسلمت، وبك آمنت، وعلىك توكلت، وإليك أنَبْت ، وبـك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك،لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذى لا يموت، والجن والإنس يموتون) إلى أمثال ذلك . إذا تقرر هذا الأصل، فالإنسان فى هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة، إما أن يأتي بهما، وإما أن يأتى بالعبادة فقط، وإما أن يأتى بالاستعانة فقط، وإما أن يتركهما جميعاً. ولهذا كان الناس فى هذه الأقسام الأربعة، بل أهل الديانات هم أهل هذه الأقسام، وهم المقصودون هنا بالكلام. قسم يغلب عليه قصد التأله لله ومتابعة الأمر والنهى والإخلاص لله تعالى، واتباع الشريعة فى الخضوع لأوامره وزواجره وكلماته الكونيات، لكن يكون منقوصا من جانب الاستعانة والتوكل، فيكون إما عاجزاً وإما مفرطا،وهو مغلوب إما مع عدوه الباطن وإما مع عدوه الظاهر، وربما يكثر منه الجزع مما يصيبه، والحزن لما يفوته، وهذا حال كثير ممن يعرف شريعة الله وأمره، ويرى أنه متبع للشريعة وللعبادة الشرعية، ولا يعرف قضاءه وقدره، وهو حسن القصد،طالب للحق، لكنه غير عارف بالسبيل الموصلة، والطريق المفضية. وقسم يغلب عليه قصد الاستعانة بالله والتوكل علىه، وإظهار الفقر والفاقة بين يديه، والخضوع لقضائه وقدره وكلماته الكونيات، لكن يكون منقوصا من جانب العبادة وإخلاص الدين للّه،فلا يكون مقصوده أن يكون الدين كله للّه، وإن كان مقصوده ذلك فلا يكون متبعاً لشريعة اللّه ـ عز وجل ـ ومنهاجه، بل قصده نوع سلطان فى العالم، إما سلطان قدرة وتأثير،وإما سلطان كشف وإخبار، أو قصده طلب ما يريده ودفع ما يكرهه بأي طريق كان، أو مقصوده نوع عبادة وتأله بأي وجه كان همته فى الاستعانة والتوكل المعينة له على مقصوده، فيكون إما جاهلا وإما ظالما تاركا لبعض ما أمره اللّه به، راكبا لبعض ما نهى اللّه عنه، وهذه حال كثير ممن يتأله ويتصوف ويتفقر، ويشهد قدر اللّه وقضاءه، ولا يشهد أمر اللّه ونهيه، ويشهد قيام الأكوان باللّه وفقرها إليه، وإقامته لها ولا يشهد ما أمر به وما نهى عنه، وما الذي يحبه اللّه منه ويرضاه، وما الذي يكرهه منه ويسخطه . ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة، ومخالفة لبعض الأمر، وإذا أوغل الرجل منهم دخل فى الإباحية والانحلال، وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد،كما قد وقع لكثير من الشيوخ، ويوجد فى كلام صاحب (منازل السائرين) وغيره ما يفضي إلى ذلك . وقد يدخل بعضهم فى (الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود) فيعتقد أن اللّه هو الوجود المطلق، كما يقول صاحب (الفتوحات المكية) في أولها: الرب حــق والعبــد حــــــق ** ياليــت شعـري مـــــن المكـلف إن قلـت عبــــد فــذاك ميــت ** أو قلــت رب أنـــــى يكـــلف وقسم ثالث مُعْرِضون عن عبادة اللّه وعن الاستعانة به جميعا . وهم فريقان: أهل دنيا وأهل دين، فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير اللّه، ويستعينون غير اللّه بظنهم وهوَاهم: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [ النجم: 23 ]، وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب . واعلم أنه يجب التفريق بين من قد يعرض عن عبادة اللّه والاستعانة به، وبين من يعبد غيره ويستعين بسواه .
قال الله ـ عز وجل ـ فى أول السورة: و(الله) هو الإله المعبود، فهذا الاسم أحق بالعبادة؛ ولهذا يقال: الله أكبر، الحمد لله، سبحان الله لا إله إلا الله. و(الرب) هو المربى الخالق الرازق الناصر الهادى. وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة؛ ولهذا يقال: فالاسم الأول يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه، وما خلق له، وما فيه صلاحه وكماله، وهو عبادة الله، والاسم الثانى يتضمن خلق العبد ومبتداه، وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثانى يدخل فى الأول دخول الربوبية فى الإلهية، والربوبية تستلزم الألوهية أيضاً، والاسم (الرحمن) يتضمن كمال التعلقين، وبوصف الحالين فيه تتم سعادته فى دنياه وأخراه. ولهذا قال تعالى:
ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود، وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة، كان إقرارهم باللّه من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته، وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له، والإنابة إليه . ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية، وقد أخبر عنهم أنهم وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية، وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية، وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى اللّه من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به فى الباطن من الأحوال التى بها يتصرفون، وهؤلاء من جنس الملوك، وقد ذم اللّه ـ عز وجل ـ فى القرآن هذا الصنف كثيراً، فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون فى الحقائق، ويعملون عليها، وهم ـ لعمري ـ فى نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية، وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة، وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به، واللّه سبحانه أعلم .
وذلك أن الإنسان، بل وجميع المخلوقات، عباد للّه تعالى، فقراء إليه، مماليك له، وهو ربهم ومليكهم وإلههم، لا إله إلا هو، فالمخلوق ليس له من نفسه شىء أصلاً، بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه ـ وغير ذلك ـ إنما هو من خلق اللّه،واللّه ـ عز وجل ـ رب ذلك كله ومليكه، وبارئه وخالقه ومصوره . وإذا قلنا: ليس له من نفسه إلا العدم، فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود، بل العدم ليس بشىء، وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل، لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود، بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة، وبينهما فرق، وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقـه وأبدعه الفاعـل، وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل، فإنه يفضى إلى التسلسل والدور؛ ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس؛ فإنه ليس أحد العدمين مميزاً لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلاً، وإن كان يعقل أن عدم المقتضى أولى بعدم الأثر من العكس، فهذا لأنه لما كان وجود المقتضى هو المفيد لوجود المقتضى صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية؛ لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضى أو لوجود المانع. وبعد قيام المقتضى لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين، فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه ويمنعه المانع المنافى وهو أمر موجود، وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه، وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه. وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها، فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته، لا يكون شيء بدونها بحال، فليس لنا سبب يقتضى وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده، بل مشيئته هي السبب الكامل، فمع وجودها لا مانع، ومع عدمها لا مقتضى وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلاً، بل ما بنا من نعمة فمن اللّه، وإذا مسنا الضر فإليه نجأر، والخير كله بيديه، كما قال: وذلك أن الشر إما أن يكون موجوداً أو معدوماً .فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها، مثل عدم الحياة، أو العلم، أو السمع أو البصر، أو الكلام، أو العقل، أو العمل الصالح على تنوع أصنافه، مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل علىه، والإنابة إليه، ورجائه وخشيته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة، من الأقوال والأفعال. فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات، لكن هذا العدم ليس بشىء أصلاً، حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى اللّه، وإنما هو من لوازم النفس التى هى حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت،فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم، وبعد أن خلقت ـ وقد خلقت ضعيفة ناقصة ـ فيها النقص والضعف والعجز، فإن هذه الأمور عدمية، فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته، وعدم مقتضيه، وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء اللّه تعالى. ونكتة الأمر: أن هذا الشر والسيئات العدمية، ليست موجودة حتى يكون اللّه خالقها، فإن اللّه خالق كل شىء. والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها، وتارة إلى وجود مانعها، فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين: أما الأول، فلأنه الحق المبين، فلا يقال: عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها . وأما الثانى ـ وهو وجود المانع ـ فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضى، ولو شاء فعلها لما منعه مانع، وهو ـ سبحانه ـ لا يمنع نفسه ما شاء فعله، بل هو فعال لما يشاء، ولكن اللّه قد يخلق هذا سبباً ومقتضياً ومانعاً، فإن جعل السبب تاماً لم يمنعه شيء،وإن لم يجعله تاماً منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له، فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه، كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه، وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة، ولوجود المانع منه أخرى . أما عدم السبب فظاهر؛ فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة، ولو كان منه شيء لكان سبباً فأضيف إليه لعدم السبب، ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة اللّه له، فما لم يصدر منه كان لعدم السبب . وأما وجود المانع المضاد له المنافى، فلأن نفسه قد تضيق وتضعف، وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة فى نفسها،متنافية في حقه، فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره، أو الكلام فى شيء أو النظر فيه أو إرادته، أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر، وإن كان ذلك خيراً لضيقه وعجزه، فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعاً وصاداً عن آخر . والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته، فعاد إلى العدم الذي هو منه، والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى اللّه تعالى، وأما إن كان الشيء موجوداً كالألم وسبب الألم، فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شراً على الإطلاق، ولا شراً محضاً، وإنما هو شر فى حق من تألم به، وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد . ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلاً: (آمنت بالقَدَر خيره وشره، وحلوه ومُرِّه)، وفى الحديث الذى رواه أبو داود: (لو أنفقت ملء الأرض ذَهَبا لما قَبِله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء، وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شراً، ومن تنعم به فهو في حقه خير، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم من قصَّ عليه أخوه رؤيا أن يقول: (خيراً تلقاه وشراً توقاه، خيراً لنا وشراً لأعدائنا)، فإنه إذا أصاب العبد شر سُرَّ قلب عدوه، فهو خير لهذا وشر لهذا، ومن لم يكن له ولياً ولا عدواً فليس في حقه لا خيراً ولا شراً، وليس فى مخلوقات اللّه ما يؤلم الخلق كلهم دائماً، ولا ما يؤلم جمهورهم دائماً، بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم فى أغلب الأوقات، كالشمس والعافية، فلم يكن في الموجودات التى خلقها اللّه ما هو شر مطلقاً عاماً. فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص، وفيه وجه آخر هو به خير وحسن، وهو أغلب وجهيه، كما قال تعالى: وقد علم المسلمون أن اللّه لم يخلق شيئاً ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره، ولا يكون فى المخلوقات شر محض لا خير فيه، ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه؛ وبهذا يظهر معنى قوله: (والشر ليس إليك)، وكون الشر لم يُضَف إلى اللّه وحده، بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله . فهذا الشر الموجود الخاص المقيد سببه، إما عدم وإما وجود،فالعدم مثل عدم شرط أو جزء سبب؛ إذ لا يكون سببه عدماً محضاً؛ فإن العدم المحض لا يكون سبباً تاماً لوجود، ولكن يكون سبب الخير واللذة قد انعقد، ولا يحصل الشرط فيقع الألم، وذلك مثل عدم فعل الواجبات الذي هو سبب الذم والعقاب، ومثل عدم العلم الذي هو سبب ألم الجهل وعدم السمع والبصر والنطق الذي هو سبب الألم بالعمى والصمم والبكم، وعدم الصحة والقوة، الذي هو سبب الألم والمرض والضعف . فهذه المواضع ـ ونحوها ـ يكون الشر ـ أيضاً ـ مضافاً إلى العدم المضاف إلى العبد، حتى يتحقق قول الخليل: يببن ذلك أن المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته، فإنه إذا كان عالما بمضرتها وهو غنى عنها امتنع أن يفعلها، والجهل أصله عدم، والحاجة أصلها العدم. فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم والغنى؛ ولهذا يقول فى القرآن: وأما الموجود الذى هو سبب الشر الموجود الذى هو خاص كالآلام، مثل الأفعال المحرمة من الكفر الذى هو تكذيب أو استكبار، والفسوق الذى هو فعل المحرمات ونحو ذلك، فإن ذلك سبب الذم والعقاب، وكذلك تناول الأغذية الضارة، وكذلك الحركات الشديدة المورثة للألم، فهذا الوجود لا يكون وجوداً تاماً محضاً؛ إذ الوجود التام المحض لا يورث إلا خيراً، كما قلنا: إن العدم المحض لا يقتضى وجوداً، بل يكون وجوداً ناقصاً، إما فى السبب وإما فى المحل، كما يكون سبب التكذيب عدم معرفة الحق والإقرار به، وسبب عدم هذا العلم والقول عدم أسبابه،من النظر التام،والاستماع التام لآيات الحق وأعلامه. وسبب عدم النظر والاستماع، إما عدم المقتضى فيكون عدماً محضاً، وإما وجود مانع من الكبر أو الحسد فى النفس والحسد ـ أيضاً ـ سببه عدم النعمة التى يصير بها مثل المحسود أو أفضل منه،فإن ذلك يوجب كراهة الحاسد لأن يكافئه المحسود، أو يتفضل عليه . وكذلك الفسوق ـ كالقتل والزنا وسائر القبائح ـ إنما سببها حاجة النفس إلى الاشتفاء بالقتل والالتذاذ بالزنا،وإلا فمن حصل غرضه بلا قتل أو نال اللذة بلا زنا لا يفعل ذلك، والحاجة مصدرها العدم، وهذا يبين ـ إذا تدبره الإنسان ـ أن الشر الموجود إذا أضيف إلى عدم أو وجود فلابد أن يكون وجوداً ناقصاً، فتارة يضاف إلى عدم كمال السبب أو فوات الشرط، وتارة يضاف إلى وجود، ويعبر عنه تارة بالسبب الناقص والمحل الناقص، وسبب ذلك إما عدم شرط أو وجود مانع، والمانع لا يكون مانعاً إلا لضعف المقتضى، وكل ما ذكرته واضح بين، إلا هذا الموضع ففيه غموض يتبين عند التأمل وله طرفان: أحدهما: أن الموجود لا يكون سببه عدماً محضاً . والثانى: أن الموجود لا يكون سبباً للعدم المحض، وهذا معلوم بالبديهة أن الكائنات الموجودة لا تصدر إلا عن حق موجود . ولهذا كان معلوماً بالفطرة أنه لابد لكل مصنوع من صانع، كما قال تعالى: ومن المتكلمين من استدل على هذا المطلوب بالقياس، وضرب المثال، والاستدلال عليه ممكن ودلائله كثيرة، والفطرة عند صحتها أشد إقراراً به، وهو لها أبْدَه، وهى إليه أشد اضطرارا من المثال الذى يقاس به . وقد اختلف أهل الأصول فى العلة الشرعية، هل يجوز تعلىل الحكم الوجودى بالوصف العدمى فيها مع قولهم: إن العدمى يعلل بالعدمى؟ فمنهم من قال: يعلل به، ومنهم من أنكر ذلك، ومنهم من فصل بين ما لا يجوز أن يكون علة للوجود فى قياس العلة،ويجوز أن تكون علته له فى قياس الدلالة فلا يضاف إليه فى قياس الدلالة، وهذا فصل الخطاب، وهو أن قياس الدلالة يجوز أن يكون العدم فيه علة وجزءاً من علة؛ لأن عدم الوصف قد يكون دليلا على وصف وجودى يقتضى الحكم . وأما قياس العلة، فلا يكون العدم فيه علة تامة، لكن يكون جزءاً من العلة التامة وشرطا للعلة المقتضية التى ليست بتامة، وقلنا: جزء من العلة التامة، وهو معنى كونه شرطاً في اقتضاء العلة الوجودية، وهذا نزاع لفظى، فإذا حققت المعانى ارتفع. فهذا فى بيان أحد الطرفين وهو أن الموجود لا يكون سببه عدماً محضاً. وأما الطرف الثانى: وهو أن الموجود لا يكون سبباً لوجود يستلزم عدماً، فلأن العدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود، بل يكفى فيه عدم السبب الموجود؛ ولأن السبب الموجود إذا أثر فلابد أن يؤثر شيئاً، والعدم المحض ليس بشىء، فالأثر الذي هو عدم محض بمنزلة عدم الأثر، بل إذا أثر الإعدام فالإعدام أمر وجودي فيه عدم، فإن جعل الموجود معدوماً والمعدوم موجوداً أمر معقول، أما جعل المعدوم معدوماً فلا يعقل إلا بمعنى الإبقاء على العدم، والإبقاء على العدم يكفي فيه عدم الفاعل، والفرق معلوم بين عدم الفاعل وعدم الموجب فى عدم العلة، وبين فاعل العدم، وموجب العدم، وعلة العدم . والعدم لا يفتقر إلى الثاني، يل يكفى فيه الأول . فتبين بذلك الطرفان، وهو أن العدم المحض الذي ليس فيه شوب وجود لا يكون وجودا ما؛ لا سبباً ولا مسبباً، ولا فاعلا ولا مفعولا أصلا، فالوجود المحض التام الذي ليس فيه شوب عدم لا يكون سبباً لعدم أصلا، ولا مسبباً عنه،ولا فاعلاً له ولا مفعولاً، أما كونه ليس مسبباً عنه ولا مفعولاً له فظاهر، وأما كونه ليس سبباً له، فإن كان سبباً لعدم محض فالعدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود، وإن كان لعدم فيه وجود فذاك الوجود لابد له من سبب،ولو كان سببه تاماً وهو قابل لما دخل فيه عدم؛ فإنه إذا كان السبب تاماً والمحل قابلا، وجب وجود المسبب، فحيث كان فيه عدم فلعدم ما فى السبب أو فى المحل فلا يكون وجوداً محضاً . فظهر أن السبب حيث تخلف حكمه إن كان لفوات شرط فهو عدم، وإن كان لوجود مانع فإنما صار مانعاً لضعف السبب، وهو أيضاً عدم قوته وكماله، فظهر أن الوجود ليس سبب العدم المحض، وظهر بذلك القسمة الرباعية، وهى أن الوجود المحض لا يكون إلا خيراً . يبين ذلك أن كل شرٍّ فى العالم لا يخرج عن قسمين: إما ألم وإما سبب الألم، وسبب الألم مثل الأفعال السيئة المقتضية للعذاب، والألم الموجود لا يكون إلا لنوع عدم، فكما يكون سببه تفرق الاتصال؛ وتفرق الاتصال هو عدم التأليف والاتصال الذى بينهما، وهو الشر والفساد . وأمـا سبب الألم، فقد قررت فى قاعدة كبيرة: أن أصل الذنوب هو عدم الواجبات لا فعل المحرمات، وإن فعل المحرمات إنما وقع لعدم الواجبات، فصار أصل الذنوب عدم الواجبات، وأصل الألم عدم الصحة؛ ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلمهم فى خطبة الحاجة أن يقولوا: (ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)، فيستعيذ من شر النفس الذى نشأ عنها من ذنوبها وخطاياها، ويستعيذ من سيئات الأعمال التى هى عقوباتها وآلامها؛ فإن قوله: (ومن سيئات أعمالنا) قد يراد به السيئات فى الأعمال، وقد يراد به العقوبات، فإن لفظ السيئات فى كتاب اللّه يراد به ما يسوء الإنسان من الشر، وقد يراد به الأعمال السيئة، قال تعالى: ومعلوم أن شر النفس هو الأعمال السيئة،فتكون سيئات الأعمال هى الشر والعقوبات الحاصلة بها فيكون مستعيذاً من نوعى السيئات؛ الأعمال السيئة وعقوباتها، كما فى الاستعاذة المأمور بها فى الصلاة: (أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، فأمرنا بالاستعاذة من العذاب ـ عذاب الآخرة وعذاب البرزخ ـ ومن سبب العذاب، ومن فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال. وذكر الفتنة الخاصة بعد الفتنة العامة ـ فتنة المسيح الدجال ـ فإنها أعظم الفتن، كما فى الحديث الصحيح: (ما من خَلْق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال).
إذا ظهر أن العبد وكل مخلوق فقير إلى الله محتاج إليه ليس فقيراً إلى سواه، فليس هو مستغنياً بنفسه ولا بغير ربه، فإن ذلك الغير فقير أيضاً محتاج إلى الله، ومن المأثور عن أبى يزيد ـ رحمه الله ـ أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق. وعن الشيخ أبى عبد الله القرشى [هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم، الأندلسى الصوفى، أحد العارفين وصاحب الكرامات والأحوال، له كلمات وجمل فى آداب المعاملات وطرائق أهل الرياضات جمعها بعض تلاميذه فى كتاب ـ الفصول ـ أقام بمصر مدة، وسكن القدس وتوفى بها سنة 995هـ عن خمس وخمسين سنة] أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون . وهذا تقريب وإلا فهو كاستغاثة العدم بالعدم؛ فإن المستغاث به إن لم يخلق الحق فيه قوة وحولا وإلا فليس له من نفسه شىء، قال سبحانه: أحدهما:بمعنى العابد كرهاً،كما قال: والثانى: بمعنى العابد طوعاً وهو الذى يعبده ويستعينه، وهذا هو المذكور فى قوله: وهذه العبودية قد يخلو الإنسان منها تارة، وأما الأولى فوصف لازم،إذا أريد بها جريان القدر عليه وتصريف الخالق له،قال تعالى: وفقر المخلوق وعبوديته أمر ذاتي له لا وجود له بدون ذلك، والحاجة ضرورية لكل المصنوعات المخلوقات، وبذلك هي أنها لخالقها وفاطرها؛ إذ لا قيام لها بدونه، وإنما يفترق الناس فى شهود هذا الفقر والاضطرار وعزوبه عن قلوبهم . وأيضاً، فالعبد يفتقر إلى اللّه من جهة أنه معبوده الذي يحبه حب إجلال وتعظيم، فهو غاية مطلوبه ومراده ومنتهى همته، ولا صلاح له إلا بهذا، وأصل الحركات الحب، والذي يستحق المحبة لذاته هو اللّه، فكل من أحب مع اللّه شيئاً فهو مشرك، وحبه فساد؛ وإنما الحب الصالح النافع حب اللّه والحب للّه، والإنسان فقير إلى اللّه من جهة عبادته له ومن جهة استعانته به للاستسلام والانقياد لمن أنت إليه فقير وهو ربك وإلهك . وهذا العلم والعمل أمر فطري ضروري؛ فإن النفوس تعلم فقرها إلى خالقها، وتذل لمن افتقرت إليه، وغناه من الصـمدية التى انفرد بها، فإنه ثم هذا المستعين به السائل له، إما أن يسأل ما هو مأمور به، أو ما هو منهى عنه، أو ما هو مباح له،فالأول حال المؤمنين السعداء الذين حالهم: ولهذا قال سبحانه وتعالى: ولهذا قيل: إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد،وعن كمال الطاعة؛ لأنه عقب آية الدعاء بقوله:
فالعبد كما أنه فقير إلى اللّه دائماً ـ فى إعانته وإجابة دعوته وإعطاء سؤاله وقضاء حوائجه ـ فهو فقير إليه فى أن يعلم ما يصلحه وما هو الذي يقصده ويريده، وهذا هو الأمر والنهي والشريعة، وإلا فإذا قضيت حاجته التى طلبها وأرادها ولم تكن مصلحة له كان ذلك ضرراً علىه، وإن كان في الحال له فيه لذة ومنفعة فالاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة، وهذا قد عَرَّفه اللّه عباده برسله وكتبه. علموهم، وزكوهم، وأمروهم بما ينفعهم، ونهوهم عما يضرهم، وبينوا لهم أن مطلوبهم ومقصودهم ومعبودهم يجب أن يكون هو الله وحده لا شريك له، كما أنه هو ربهم وخالقهم، وأنهم إن تركوا عبادته أو أشركوا به غيره خسروا خسراناً مبيناً، وضلوا ضلالا بعيداً، وكان ما أوتوه من قوة ومعرفة وجاه ومال وغير ذلك ـ وإن كانوا فيه فقراء إلى الله مستعينين به علىه، مقرين بربوبيته ـ فإنه ضرر علىهم، ولهم بئس المصير وسوء الدار. وهذا هو الذي تعلق به الأمر الديني الشرعى والإرادة الدينية الشرعية، كما تعلق بالأول الأمر الكونى القدري والإرادة الكونية القدرية . والله ـ سبحانه ـ قد أنعم على المؤمنين بالإعانة والهداية؛ فإنه بين لهم هُدَاهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأعانهم على اتباع ذلك علماً وعملا، كما مَنَّ علىهم وعلى سائر الخلق بأن خلقهم ورزقهم وعافاهم، ومَنَّ على أكثر الخلق بأن عرفهم ربوبيته لهم وحاجتهم إليه، وأعطاهم سؤلهم، وأجاب دعاءهم، قال تعالى: قوم لم يعبدوه ولم يستعينوه،وقد خلقهم ورزقهم وعافاهم . وقوم استعانوه فأعانهم ولم يعبدوه . وقوم طلبوا عبادته وطاعته، ولم يستعينوه ولم يتوكلوا عليه . والصنف الرابع: الذين عبدوه واستعانوه فأعانهم على عبادته وطاعته، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد بين ـ سبحانه ـ ما خص به المؤمنين فى قوله:
َقَالَ شيخ الإِسلام أبو العباس أَحمد بن تيمـية ـ رَحِمَـهُ اللَّهُ تعَالى: والعبد مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء؛ فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية، فمن فاته فهو إما من المغضوب علىهم، وإما من الضالين، وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى الله، وهذه الآية مما يبين فساد مذهب القَدَرِيّة . وأما سؤال من يقول: فقد هداهم فلا حاجة بهم إلى السؤال، وجواب من أجابه: بأن المطلوب دوامها ـ كلام من لم يعرف حقيقة الأسباب، وما أمر الله به؛ فإن (الصراط المستقيم) أن يفعل العبد فى كل وقت ما أمر به فى ذلك الوقت من علم وعمل، ولا يفعل ما نهى عنه، وهذا يحتاج فى كل وقت إلى أن يعلم ويعمل ما أمر به في ذلك الوقت وما نهى عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور، فهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد فى وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله فى قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدى به فى ذلك الصراط المستقيم . نعم، حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق، والرسول حق، ودين الإسلام حق، وذلك حق، ولكن هذا المجمل لا يغنيه إن لم يحصل له هدى مفصل فى كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التى يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى والشهوات أكثر عقولهم لغلبة الشهوات والشبهات عليهم . والإنسان خلق ظلوما جهولا، فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدل فى محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته، فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافى جهله، وعدل ينافى ظلمه، فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم،وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوانِ: و (الصراط المستقيم) قد فسر بالقرآن، وبالإسلام، وطريق العبودية، وكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره، فالقرآن مشتمل على مهمات وأمور دقيقة، ونواهٍ وأخبار وقصص وغير ذلك، إن لم يهد الله العبد إليها فهو جاهل بها ضال عنها، وكذلك الإسلام وما اشتمل عليه من المكارم والطاعات والخصال المحمودة، وكذلك العبادة وما اشتملت علىه. فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية فى سعادته ونجاته وفلاحه، بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، فإذا انقطع رزقه مات، والموت لابد منه، فإذا كان من أهل الهدى به كان سعيداً قبل الموت وبعده، وكان الموت موصلا إلى السعادة الأبدية، وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيداً، وكان القتل من تمام النعمة، فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق، بل لا نسبة بينهما؛ لأنه إذا هدي كان من المتقين وأيضاً، فإنه يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدى، ثم أمر وهدى غيره بقوله وفعله ورؤيته، فالهدى التام أعظم ما يحصل به الرزق والنصر، فتبين أن هذا الدعاء جامع لكل مطلوب، وهذا مما يبين لك أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع، فإذا تعينت الأفعال فهذا القول أولى، والله أعلم . وصلى الله على نبيه محمد وسلم تسليما كثيراً . قال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ اللَّه: وقد ذكرت فى مواضع ما اشتملت عليه سورة (البقرة) من تقرير أصول العلم وقواعد الدين: أن الله ـ تعالى ـ افتتحها بذكر كتابه الهادى للمتقين، فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين. فهذه (جمل خبرية) ثم ذكر (الجمل الطلبية) فدعا الناس إلى عبادته وحده، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش الأرض وبناء السماء وإنزال الماء، وإخراج الثمار رزقا للعباد، ثم قرر (الرسالة) وذكر (الوعد، والوعيد) ثم ذكر مبدأ (النبوة والهدى) وما بثه فى العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعلم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة له لما شرفه من العلم؛ فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، فقص جنس دعوة الأنبياء. ثم انتقل إلى خطاب بنى إسرائيل وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوته، إذ هو قرين محمد، فذكر آدم الذى هو أول،وموسى الذى هو نظيره، وهما اللذان احتجا، وموسى قتل نفساً فغفر له، وآدم أكل من الشجرة فتاب علىه، وكان فى قصة موسى رد على الصابئة ونحوهم ممن يقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاؤوا به، وقد يتأولون أخبار الأنبياء، وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير نبوته، وذكر حال من عَدَل عن النبوة إلى السِّحْر، وذكر النسخ الذى ينكره بعضهم، وذكر النصارى وأن الأمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم .كل هذا فى تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة . ثم أخذ ـ سبحانه ـ فى بيان شرائع الإسلام التى على ملة إبراهيم، فذكر إبراهيم، الذى هو إمام، وبناء البيت الذى بتعظيمه يتميز أهل الإسلام عما سواهم، وذكر استقباله، وقرر ذلك؛ فإنه شعار الملة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يقال: أهل القبلة، كما يقال: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم). وذكر من (المناسك) ما يختص بالمكان، وذلك أن الحج له مكان وزمان، و(العمرة) لها مكان فقط، والعكوف والركوع والسجود شرع فيه، ولا يتقيد به، ولا بمكان، ولا بزمان، لكن الصلاة تتقيد باستقباله، فذكر ـ سبحانه ـ هذه الأنواع الخمسة: من العكوف، والصلاة، والطواف، والعمرة، والحج، والطواف يختص بالمكان، ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت من الطواف بالجبلين، وأنه لا جُنَاح فيه؛ جوابا لما كان عليه الأنصار فى الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمناة، وجوابا لقوم توقفوا عن الطواف بهما. وجاء ذكر الطواف بعد العبادات المتعلقة بالبيت ـ بل وبالقلوب والأبدان والأموال ـ بعد ما أمروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللذين لا يقوم الدين إلا بهما، وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل الملل لا يخالفون فيه، فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه، وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين؛ فإنها أعطيت ما لم تعط الأمم قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها كالعبادات المتعلقة بالبيت؛ ولهذا يقرن بين الحج والجهاد لدخول كل منهما فى سبيل الله، فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع، وكذلك الحج فى الأصح، كما قال: الحج من سبيل الله. وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب بذمه لكاتم العلم، ثم ذكر أنه لا يقبل ديناً غير ذلك. ففى أولها: ثم ذكر الحلال والحرام، وأطلق الأمر فى المطاعم؛ لأن الرسول بعث بالحنيفية وشعارها وهو البيت، وذكر سماحتها في الأحوال المباحة، وفي الدماء بما شرعه من القصاص، ومن أخذ الدية، ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان، فذكر الوصية المتعلقة بالموت، ثم الصيام المتعلق برمضان، وما يتصل به من الاعتكاف ذكره في عبادات المكان وعبادات الزمان، فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحباباً أو وجوبا بوقت الصيام، ووسطه أولاً بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تشرع فى جميع الأرض، والعكوف بينهما . ثم أتبع ذلك بالنهى عن أكل الأموال بالباطل، وأخبر أن المحرم نوعان: نوع لعينه كالميتة، ونوع لكسبه كالربا والمغصوب. فاتبع المعنى الثابت بالمحرم الثابت تحريمه لعينه، وذكر فى أثناء عبادات الزمان المنتقل الحرام المنتقل؛ ولهذا أتبعه بقوله: وذكر المُحْصَر، وذكر تقديم الإحلال المتعلق بالمال وهو الهدى عن الإحلال المتعلق بالنفس وهو الحلق، وإن المتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا كان آخر ما يحل عين الوطء [فى المطبوعة: الوطئ ـ والصواب ما أثبتناه]، فإنه أعظم المحظورات ولا يفسد النسك بمحظور سواه . وذكر (التمتع بالعمرة إلى الحج) لتعلقه بالزمان مع المكان؛ فإنه لا يكون متمتعاً حتى يحرم بالعمرة فى أشهر الحج، وحتى لا يكون أهله حاضرى المسجد الحرام ـ وهو الأفقى ـ فإنه الذى يظهر التمتع فى حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه، أما الذي هو حاضر فسيان عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج، ثم ذكر وقت الحج، وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة؛ فإنه هذا مختص بزمان ومكان؛ ولهذا قال: ثم أمر عند قضاء المناسك بذكره، وقضائها ـ والله أعلم ـ قضاء التَّفَث [التَّفَث: قيل: الشَّعَث وما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحلق العانة وغير ذلك. انظر: القاموس المحيط، مادة: تفث]، والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك: فتدبر تناسب القرآن وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذكر أحكام الحج فيها فى موضعين، مع ذكر بيته وما يتعلق بمكانه، وموضع ذكر فيه الأهلة فذكر ما يتعلق بزمانه، وذكر أيضاً القتال فى المسجد الحرام والمقاصة فى الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المتعلق بالمكان؛ ولهذا قرن ـ سبحانه ـ ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج . وذكر أن (البر) ليس أن يشقى الرجل نفسه، ويفعل ما لا فائدة فيه، من كونه يبرز للسماء، فلا يستظل بسقف بيته، حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذى جعل ميقاتاً للحج شرع مثل هذا، وإنما تضمن شرع التقوى، ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحكام النكاح والوالدات، وما يتعلق بالأموال والصدقات والربا والديون وغير ذلك، ثم ختمها بالدعاء العظيم المتضمن وضع الآصار والأغلال والعفو والمغفرة والرحمة وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شرعه من الدين فى كتابه المبين . والحمد لله رب العالمين .
|